مخزوننا الاستراتيجي من القمح لايزال في خطر!
من المريب جداً أن تركّز وزارة الزراعة دون غيرها على التغيرات المناخية الجافة، ولا تشير إلى مشاريع الري التي كلّفتنا مئات المليارات خلال العقود الماضية لمواجهة الجفاف ومنع تأثيره الكارثي على الحبوب!
المريب أكثر هذا الصمت المريع من قبل وزارة الري، المسؤول المباشر عن كفاءة عمل السدود وشبكات الري، لتبقى جاهزة لري الأراضي العطشى!
وإذا كانت ذريعة وزارة الزراعة التركيز على الجفاف لتبرير تراجع إنتاج مساحات القمح البعلية، فما ذريعة وزارة الري لعدم تأمين الريات المطلوبة لمساحات القمح المروية؟
لا يحتاج الأمر إلى باحث استراتيجي، ولا إلى محلل اقتصادي مشهور كي يكشف لنا الرقم الفعلي لإنتاجنا من القمح هذا العام في الأراضي المروية فقط، أي التي تعتمد على مياه السدود، وشبكات الري، والمازوت والكهرباء!
حسب تأكيد وزارة الزراعة فإن المساحة المروية لموسم 2022 بلغت 556 ألف هكتار، وهو رقم أكثر من جيد.
وبما أن غلة الحبوب خلال العقود الثلاثة الماضية تراوحت بين 1.9ـ 2.8 طن في الهكتار الواحد، فهذا يعني أن إنتاجنا من القمح المروي يجب أن يتراوح بين 945.200 طن و1.556.800 طن، أي أن مستلزمات القمح المروي من مياه وكهرباء ومازوت وسعر مجز جداً يراعي التكلفة الفعلية تتوقف أولاً وأخيراً على القرارات الحكومية وليس على الجفاف، ولا على الأحوال الجوية السيئة جداً!
لا نحتاج إلى أية أعذار أو تبريرات لعدم إنتاج أكثر من 1.5 مليون طن قمح من المساحة المروية، ومن يوفر القطع الأجنبي لاستيراد الحبوب فهو قادر حتماً على توفير الاعتمادات الأكثر من كافية لإنتاجها محلياً بالاعتماد على الذات وليس على الاستيراد!
وإذا تكررت تجربة “عام القمح” في الموسم الماضي فستنتظرنا كارثة أسوأ في موسم 2022، فحسب أرقام وزارة الزراعة بلغت مساحة القمح المروية في موسم 2021 أكثر من 600 ألف هكتار، وبالتالي كان يجب أن نحصد منها ما بين 1.14 ـ 1.68 مليون طن باستثناء إنتاج المساحات البعلية، ولكن بفعل عدم تأمين المستلزمات التي يمكن توفيرها بقرارات حكومية كان إنتاجنا في عام القمح أقل من 500 ألف طن!
إن التصريحات المتكررة لجهات مسؤولة في وزارة الزراعة، والصمت المريب لوزارة الري لا يؤكدان أنها تمهيد لإنتاج أقل من متواضع، بل أن مخزوننا من القمح سيبقى في خطر طالما نعتمد بتأمينه على المستوردات، وليس بالاعتماد على الذات!
يخطىء من يعتقد أننا نمر بحالة استثنائية فرضت هذا الواقع المستمر منذ عام 2011، ويخطىء أكثر من يعتقد أن محصول القمح رهن الطقس كما توحي الجهات الحكومية وتحديداً وزارة الزراعة.
لقد تعرّض مخزوننا الاستراتيجي للحبوب للمرة الأولى لنقص خطير لم يحدث منذ منتصف الثمانينيات في عام 2008، وليس في الأعوام الأخيرة فقط، واضطرت الحكومة آنذاك لاستيراد 200 ألف طن لسد هذا النقص.
ومع أن الأمر كان مؤشراً هدد أمننا الغذائي، فإن الحكومات المتعاقبة تحاشت حتى الآن عرضه للمناقشة العلنية لمعرفة الأسباب الحقيقية لحدوث نقص غير مسبوق في مخزون الحبوب لا يمكن تعويضه إلا بالاستيراد.
ومن الأسئلة التي تحتاج إلى إجابات حكومية:
هل الجفاف وانحباس الأمطار السبب بتراجع حجم المخزون الاستراتيجي من الحبوب؟
قد تتعدد الأسباب التي تُعزى إلى نقص مخزون الحبوب، وقد نجد المبررات لهذه الأسباب، ولكن لا يمكن القبول أنه بسبب انحباس الأمطار على الإطلاق.
لقد تحررت الزراعة في سورية من عامل الأمطار منذ مطلع التسعينيات من خلال زيادة المساحة المروية، وبالتالي فإن المخزون الاستراتيجي للحبوب يأتي من القمح المروي وليس من قمح الأمطار.
وإذا حدث خلل في الزراعة المروية منذ عام 2008 فإنه ما من جهة، كمجلس الشعب مثلاً، حددت المسؤول وحاسبته حساباً عسيراً لأنه تجاوز الخط الأحمر لأمننا الغذائي، ولا بأس أن نتذكر ما قالته وزيرة الخارجية الأمريكية السابقة كونداليزا رايس بغضب شديد: إن سورية لا تستورد الحبوب!
نحن نستغرب فعلاً عدم قيام أية حكومة حتى الآن بتشكيل لجنة فنية لدراسة أسباب ما حصل، ونستغرب أكثر عدم قيام مجلس الشعب خلال دوراته السابقة وحتى الآن بمناقشة هذا الموضوع الخطير، وسؤال الحكومة عن الخلل الخطير الذي حدث منذ عام 2008، أي التحول من الاكتفاء الذاتي إلى الاستيراد لتأمين مخزون الحبوب الاستراتيجي.
كان يجب على مجلس الشعب في إحدى دوراته أن يشكّل لجنة موسعة مهمتها متابعة مشاريع الري في سورية، وإعداد تقرير مفصل عن واقعها، وجوانب القصور والإهمال التي حالت دون وضعها بالاستثمار، ولماذا خرجت آلاف الهكتارات من الاستثمار في السنوات الماضية؟
إن مثل هكذا تقرير يسمح لمجلس الشعب بمناقشة الحكومة بالأرقام والوقائع المادية، لأن الموضوع أولاً وأخيراً يتعلق بمشاريع الري، فهي التي تزيد المساحة المروية، وهي التي تزيد من محصول الحبوب، وهي التي تزيد المخزون الاستراتيجي، وهي التي تحقق فائضاً للتصدير.
نعم، المشكلة ليست في الجفاف، ولا في انحباس الأمطار، وإنما في الواقع المتردي لمشاريع الري، وعدم استثمار المنجز منها بالشكل المطلوب.
لقد سبق للقائد المؤسس حافظ الأسد أن شدد على أهمية إنجاز مشاريع الري في مواعيدها في الكلمة التي ألقاها في مجلس الشعب عام 1994، وطلب وقتها من المجلس أن يعينه على الحكومة في هذا الموضوع، وأكد “أن العلاج لموضوع التأخير في إنهاء مشاريع الري هو الحساب”.
يبدو أن لا علاج اليوم للنقص الخطير في مخزون الحبوب الذي لا يُؤمن إلا بالاستيراد سوى الحساب، ولا أحد لديه صلاحية محاسبة الحكومة سوى مجلس الشعب، فمتى سيفعلها؟يخطىء من يعتقد أننا نمر بحالة استثنائية فرضت هذا الواقع
صحيفة البعث